قراءة تحليلية في تقرير جامعة بنسلفانيا لتصنيف مراكز الفكر
وحدة التخطيط الاستراتيجي
على واقع إحداثيات خريطة انتشار مراكز الفكر حول العالم تُرسم ملامح أولويات المستقبل، فلم يعد من المقبول عالميا التعامل مع المستقبل بسياسات ارتدادية بناء على رد الفعل؛ فالمستقبل يحتاج إلى الاستعداد بشكل جيد لإعداد أجندة فعالة للدراسات المستقبلية، ولا يجوز أن يختزل الاستعداد للمستقبل من خلال تنظيم مؤتمر أو أكثر تحت مسمى “التحديات المستقبلية”، ولكن يجب التحرر تجاه الاستشراف الحقيقي للمستقبل، والتعلم من مراكز الفكر الأفضل على المستوى العالمي التي تساهم بفعالية في رسم ملامح وصور سيناريوهات المستقبل.
وتبقى مراكز الفكر أحد أهم المؤسسات التي تقدم أبحاثا وتحليلات ومشاركة في السياسة العامة، فهي منظمات تُعِد البحوث والتحليلات والمشورة الموجهة نحو السياسات بشأن القضايا المحلية والدولية التي تمكن صناع السياسة والجمهور من اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن قضايا السياسة العامة، وقد تكون المؤسسات الفكرية تابعة لأحزاب سياسية أو حكومات أو مجموعات مصالح أو شركات خاصة أو تكون منظمات غير حكومية مستقلة.
غالبا ما تكون هذه المؤسسات جسرا بين المجتمعات الأكاديمية ومجتمعات صنع السياسات، وتخدم المصلحة العامة كصوت مستقل يترجم البحوث التطبيقية والأساسية إلى شكل يكون مفهوما وموثوقا به ومتاحا لواضعي السياسات والجمهور.
ونظرا لأهمية الدور الذي تؤديه مراكز الفكر خرجت العديد من المؤشرات الأوروبية والعربية التي عملت على تقييم مراكز الفكر من حيث الكفاءة والمهنية، واعتمدت معايير عديدة من أجل هذا التقييم، لكن أغلب هذه المؤشرات لم تستمر في هذه التقيمات لوجود تحديات كبيرة.
سنتناول في هذا المحور بعض الجهود التي بذلت في سبيل تصنيف مراكز الفكر عالميا، وسنُركز على مؤشر جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر؛ وذلك نظرا لأهميته واعتباره الأشهر والأكثر استدامة عالميا، وذلك على النحو التالي:
مركز التنمية العالمية هو مركز أبحاث غير ربحي مقره في واشنطن العاصمة وله فرع في لندن، ويركز المركز الذي أنشئ عام 2001 على قضايا التنمية الدولية والتنمية المستدامة والتعليم، ويديره عدد من الأكاديميين والسياسيين، وأصدر المركز أول تقييم له لمراكز الفكر عام 2015 الذي بدأ العمل عليه في مطلع عام 2013، ويهدف التصنيف إلى توفير طريقة شفافة وموضوعية لتقييم تأثير مراكز الفكر حول العالم([1]).
وينظر المؤشر إلى الملف الشخصي العام من حيث القيمة المطلقة، ويُعدل بحسب حجم ميزانيات المؤسسات، ويصنف مؤسسات البحث إلى مجموعتين: مؤسسات الفكر والرأي في الولايات المتحدة ومراكز الفكر الدولية للتنمية في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، واستخدم المركز عددا من الوسائل في قياس مراكز الفكر من بينها:
وفي هذا القياس تصدّر معهد “كاتو” التصنيف المعتمد في الميزانية لمراكز الفكر الدولية للتنمية، حيث سجل درجة عالية في مؤشري مشجعي وسائل التواصل الاجتماعي والمرور على الإنترنت على حد سواء، يليه معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، بينما احتل مركز التنمية العالمية المرتبة الرابعة.
المعهد الوطني للتقدم البحثي هو أحد مراكز الفكر اليابانية، حيث يسعى إلى تقديم مقترحات سياسية جريئة وإتاحة المعلومات بهدف تحفيز مناقشة السياسة والمساهمة بشكل أكثر فعالية في عملية صنع السياسات، وأجرى المعهد محاولة مختلفة بتصميم دليل عالمي لمراكز الفكر، والذي من المفترض أنه يحوي كافة المعلومات عن مراكز الفكر الأشهر في كل دولة من دول العالم، حيث يحوي أسماء دول العالم وداخل كل دولة المراكز المتواجدة بها([2]).
إلا أنه بالنظر في الدليل العالمي نجد أنه أغفل العديد من المراكز في كل دول العالم، فعلى سبيل المثال تمتلك جمهورية مصر العربية -وفقا لتقرير جامعة بنسلفانيا عام 2019- عدد 39 مركزا إلا أنه في دليل المعهد الوطني لا يوجد إلا 3 فقط، ورغم امتلاك الولايات المتحدة الأميركية 1872 إلا أن دليل المعهد الوطني وجِد به 88 مركزا فقط، هذا فضلا عن أنه لم يذكر الآليات أو الوسائل التي اعتمد عليها في اختيار أو جمع المعلومات عن المراكز المدونة في الدليل الخاص به.
غابت المحاولات العربية لتقييم مراكز الفكر في العالم عن المشهد تماما، حيث كانت المحاولة الوحيدة من جانب مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وكانت أولى محاولاته في عام 2019، حيث اعتمد مركز الإمارات في تقييمه على عدد من المعايير لترتيب مراكز الدراسات الاستراتيجية على المستويين العربي والدولي، وانقسمت المعايير التي اعتمد عليها إلى معايير تتعلق بالمؤسسة وأخرى بمهام ونشاط المؤسسة البحثية، ومن أبرز هذه المعايير([3]):
هذا وعلى الرغم من كون التصنيف يعد خطوة جادة من أحد المراكز العربية لإثبات القدرة إلا أنه لم يلقَ الاهتمام ذاته الذي تلقاه تصنيف جامعة بنسلفانيا ولم يحقق المتوقع منه؛ وذلك لعدة أسباب أهمها:
يعد تصنيف جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر أقوى التصنيفات لمراكز البحوث حول العالم وأكثرها شهرة واطلاعا، حيث بدأ في إطلاق تقريره السنوي في عام 2008، ويعمل على جمع قاعدة بيانات عن مراكز الفكر حول العالم لاستخدمها في تقييم مراكز الفكر وترتيبها حول العالم، ويعتمد تقرير جامعة بنسلفانيا السنوي على عدة تقييمات من بينها ترتيب أفضل مراكز الفكر حول العالم، وتقييمات ترتيب لأفضل مراكز الفكر في ضوء التخصصات المختلفة، وأيضا يضم المؤشر معلومات عن عدد المراكز في كل قارة وعدد المراكز في كل دولة، ونظرا للأهمية الكبيرة لذلك المؤشر سنفرد له المساحة الكافية من خلال قراءة تفصيلية للمؤشر عبر استعراض معايير تصنيفه، ثم قراءة نقدية له تشتمل على أهم نقاط القوة والضعف فيه.
يعد تصنيف جامعة بنسلفانيا لمراكز الفكر أقوى التصنيفات لمراكز البحوث حول العالم وأكثرها شهرة، حيث بدأ في إطلاق تقريره السنوي في عام 2008 بالاعتماد على عدد من المعايير لتحديد المؤشر، ويعمل على تنفيذ هذه المعايير مجموعة كبيرة من المتدربين في “برنامج مراكز الفكر والمجتمع المدني بجامعة بنسلفانيا” TTCSP))، وهذه المعايير على النحو التالي([4]):
مؤشر جامعة بنسلفانيا هو أشهر تقييم لمراكز الفكر حول العالم، والذي ظل لسنوات كثيرة دون منافسة حقيقية من التقييمات التي تجريها المراكز الأخرى، وعلى الرغم من شهرة المؤشر إلا أنه شابه بعض أوجه القصور في بعض المعايير التي اعتمد عليها في التصنيف، والآخر في غياب المنافسة الواضحة من الجهات الأخرى التي كانت تصدر مثل هذه التقييمات لكنها أصبحت متوقفة الآن.
ويتمثل أول الانتقادات للمؤشر في أنه يغلب عليه التوجه السياسي والتحيز لمراكز الفكر الأميركية، كما وكيفا، حيث اعتمد وصنّف معظم المراكز الأميركية مما أعطاها تفوقا رقميا كبيرا جدا، كما تصدرت قائمة أفضل المراكز حول العالم، ففي التقرير الصادر عن عام 2019 تصدر مركز بروكينغز الأميركي مراكز الفكر العالمية باعتباره مركزا للتميز العالمي؛ وذلك نظرا لتصدره الترتيب العام العالمي في آخر 3 سنوات، وتم هذا التعديل بإدراج مراكز التميز في آلية التقرير بدءا من تقرير العام 2019 التي لم تتواجد من قبل، وتشير الآلية إلى أن المراكز التي حصلت على المركز الأول في آخر 3 سنوات في كل فئة ومنطقة لن تدخل التصنيف لمدة 3 سنوات قادمة وتصنف على أنها مراكز للتميز.
وفي التقرير الصادر عن عام 2018 حصل مركز بروكينغز الأميركي على المركز الأول في قائمة أفضل مراكز الفكر حول العالم، بالإضافة إلى تصدر المراكز الأميركية لتصنيفات أفضل المراكز في التخصصات المختلفة حول العالم في مراكز الدفاع والأمن القومي، والمراكز المتخصصة في السياسة والاقتصاد المحلي والطاقة وسياسة الموارد، وعندما حل أحد مراكز الفكر اليابانية في المركز الأول في قائمة أفضل المراكز المتخصصة في التعليم حصلت أميركا على المركز الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع.
ولم يختلف تقرير بنسلفانيا الصادر عن عام 2017 كثيرا عن سابقه في التحيز للولايات المتحدة، حيث جاء مركز بروكينجز الأميركي في المستوى الأول حول العالم كأفضل مركز للفكر، كما نال أيضا المركز الأول حول العالم في عدد من التخصصات المختلفة، ومن بين هذه المجالات: الدفاع والأمن القومي، السياسية والاقتصاد المحلي، الطاقة وسياسة الموارد، السياسة الخارجية والدولية، الاقتصاد الدولي، وأيضا الأفضل حول العالم في المركز المتخصصة في الاقتصاد الدولي والعلوم والتكنولوجيا والسياسة الاجتماعية، والأفضل في المراكز التابعة للحكومة، وأعلى المراكز في تحقيق الأرباح وأفضل الدراسات البحثية حول العالم كان أحد المراكز الأميركية.
أيضا يشكل غياب مراكز الفكر في روسيا والصين عن المراكز المتقدمة في التصنيف خللا كبيرا؛ وذلك نظرا لدورها البارز في صناعة القرار وتقديمها لتوصيات يعتد بها داخل المؤسسات الحاكمة في كلتا الدولتين، وهو ما أسفر على سبيل المثال عن بدء انتشار الصين -التي يوجد بها أكثر من مليون باحث- عسكريا بإجراء مناورات مع دول في الخليج العربي التي كانت تقتصر على التواجد الأميركي فقط، كذلك العودة الروسية من بعيد لمنطقة الشرق الأوسط عبر البوابة السورية واضطلاعها بدور رئيس في أي جهود لحل أو تسوية الأزمة.
ومن النقاط التي تستحق الوقوف أمامها هي الكم الكبير من المراكز المدرجة ضمن المؤشر، وهل يكفي عام واحد فقط لتقييم أداء 8248 مركزا في العام؟! أي أنه خلال اليوم الواحد فقط يُقيم ما يقارب من 23 مركزا! بالإضافة إلى عدم وجود بوابة بحثية لجامعة بنسلفانيا يمكن للباحثين من خلالها الاطلاع على جهود مراكز البحث التي تتبوأ مكانة متقدمة في التصنيف.
وبالنظر إلى منطقة الشرق الأوسط نجد أن المراكز الإيرانية غائبة عن إحراز أي مراكز متقدمة بالقائمة باستثناء مركزين فقط وفي مراكز تصنف على أنها ما بين المتأخرة والمتقدمة، علما بأن إيران من أكثر القوى الإقليمية نجاحا في تحقيق أهدافها عبر خلق كيانات موالية أو حتى أذرع عسكرية وميليشيات، فضلا عن قدرتها على المراوغة والتفاوض بشأن الاتفاق النووي، وتعتمد إيران على 4 مراكز بحثية رئيسية تمد النظام بالمشورة والتوصيات السياسية، وعلى أساسها يتحرك لتحقيق أهدافه التوسعية في الشرق الأوسط أو تصعيد أزمة الملف النووي أو حتى إدارة الأزمات الداخلية التي تواجهه من حين لآخر، ولعل أهمها “مركز رئاسة الجمهورية للدراسات الإستراتيجية” الذي يستوفي عددا ليس بالقليل من معايير تصنيف بنسلفانيا خاصة فيما يتعلق بعقد مؤتمرات واستضافة خبراء سياسيين من الخارج، وهناك أيضا “معهد الدراسات السياسية والدولية” بوزارة الخارجية الذي يعد أبرز الأوتاد التي يعتمد عليها النظام الإيراني خاصة أوقات الأزمات، ويصدر المعهد دوريات ومجلات سياسية تخاطب الشعوب الخارجية، منها ما هو باللغة العربية ومنها إصدارات بالإنجليزية فضلا عن إصدارات خاصة بالروسية والفرنسية.
وحول التقسيم الجغرافي للمناطق فإن التقرير قسم العالم إلى مناطق جغرافية متعددة، وفي بعض الأحيان لم يستند التصنيف إلى التقسيمات الجغرافية المتفق عليها في جميع المؤشرات العالمية الأخرى، حيث صنف المؤشر دولة روسيا ضمن إقليم أوروبا، وكان من الإنصاف أن تكون مع قارة آسيا التي تقع فيها جغرافيا، كما نظر التصنيف إلى فروع المراكز الخارجية خارج حدود الدولة الأم على أنها مراكز مستقلة، على سبيل المثال مركزا كارنيغي وبروكينغز المتواجدتان في أميركا يصنف المؤشر فروعهما الخارجية ضمن المناطق التي تتواجد فيها مثل منطقة الشرق الأوسط مثل معهد بروكينغز الدوحة، وكارنيغي الشرق الأوسط في بيروت، وهذا يعطي دلالة على عدم عدالة التصنيف.
كما أن هناك بعض الخلل في المعايير ذاتها التي يعتمد عليها مؤشر جامعة بنسلفانيا في التقييم، من بينها:
سنتناول في هذا المحور قراءة تفصيلية في خريطة انتشار مراكز الفكر حول العالم من خلال تناول إحداثيات توزيع مراكز الفكر في آخر 3 سنوات وفقا لتقرير جامعة بنسلفانيا، ويظهر الشكل رقم (1) خريطة انتشار مراكز الفكر عالميا عام 2019.
الشكل رقم (1): خريطة انتشار مراكز الفكر حول العالم 2019([5])
ويمثل الشكل رقم (2) خريطة أفضل المراكز وفق النطاق الجغرافي، حيث تصدر مركز بروجيل البلجيكي تصنيف مراكز الفكر الأوروبية، في حين تصدر معهد بروكنغز الأميركي تصنيف مراكز الفكر في أميركا الشمالية، وتصدر معهد التنمية الكوري إقليم آسيا، وتصدر مركز جيرلو فارجاس البرازيلي مراكز الفكر في أميركا الوسطى والجنوبية، وتصدر معهد بوتسوانا لتحليل سياسات التنمية مراكز الفكر في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأخيرا حل مركز الدراسات الاستراتيجية الأردني على رأس مراكز الفكر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
شكل رقم (2): خريطة أفضل المراكز وفق النطاق الإقليمي([6])
وفي الجزء القادم سنشرح ونوضح انتشار مراكز الفكر حول العالم وفقا لتقرير جامعة بنسلفانيا عن أعوام 2017، 2018، 2019 وفقا للإقليم الجغرافي، وذلك على النحو التالي:
أولا: أوروبا.. خريطة الانتشار الأكثر ثراء
تعد قارة أوروبا أكثر دول العالم في عدد مراكز الفكر وأكثرها تقدما، حيث يوجد بها العديد من المراكز التي تحتل المراتب الأولى في قائمة أفضل مراكز الفكر حول العالم، وغالبا ما تكون أعداد مراكز الفكر في قارة أوروبا في زيادة مستمرة، ففي عام 2017 بلغ عدد مراكز الفكر ما يقرب من 2045، لتزداد هذه المراكز في عام 2018 لتصبح ما يقرب من 2219 مركزا، بينما ثبتت أعداد المراكز في العام 2019 بنفس عدد المراكز في عام 2018، ولم تنخفض مراكز الفكر سوى في دولتين فقط، هما: بلجيكا، حيث انخفض من 61 مركزا في 2017 إلى 60 مركزا في 2018، وثبت على نفس الرقم في 2019، وكذلك أيسلندا انخفض من 9 مراكز في 2017 إلى 8 مراكز في 2018.
واحتلت المملكة المتحدة صدارة الدول داخل القارة بـ 321 مركزا، تليها ألمانيا بـ ـ218 ثم روسيا بـ215 وفرنسا بـ203، وأقل الدول داخل قارة أوروبا في عدد مراكز الفكر هي دولة الفاتيكان، حيث تمتلك مركزا واحدا فقط، واحتل مركز بروجيل البلجيكي صدارة الترتيب الإقليمي في قارة أوروبا، ويرصد الجدول رقم (1) مقارنة بين عدد مراكز الفكر في قارة أوروبا خلال الأعوام 2017 -2019.
جدول رقم (1): مقارنة بين عدد مراكز الفكر في قارة أوروبا في الفترة 2017 -2019)[7](
*الترتيب المدرج في الجدول تنازلي وفقا لعدد المراكز في عام 2019 في كل دولة.
تمتلك دول قارة أميركا الشمالية البالغ عددها 3 دول عددا كبيرا من مراكز الفكر التي شهدت ثباتا في عدد المراكز في الأعوام الأخيرة، بالإضافة إلى امتلاك هذه الدول مراكز تحتل قائمة الأفضل حول العالم، وتعد الولايات المتحدة الأميركية أكبر دول قارة أميركا الشمالية والعالم في عدد مراكز الفكر، حيث تمتلك 1872 مركزا، ولم تسجل أي زيادة في عدد المراكز في عام 2018 أو 2019، بينما تأتي كندا في المركز الثاني داخل القارة، حيث تمتلك 100 مركز، وظلت ثابتة عند هذا العدد منذ عام 2017، بينما كانت دولة المكسيك الدولة الوحيدة التي زاد عدد مراكزها، حيث كان 72 مركزا في عام 2017 ليصبح 86، وتؤدي مركز الفكر في هذه الدول دورا هاما في صناعة القرار، ويأتي مركز بروكنغز الأميركي في صدارة الترتيب الإقليمي لمنطقة أميركا الشمالية بالإضافة إلى تربعه على صدر ترتيب مراكز الفكر عالميا.
جدول رقم (2): مقارنة بين عدد مراكز الفكر في أميركا الشمالية في الفترة 2017 – 2019 )[8](
هي ثالث قارات العالم في الترتيب من حيث انتشار مراكز الفكر بـ 1829مركزا بزيادة بلغت 153 مركزا عن تصنيفها في العام الماضي، وتعد الهند أكبر دول القارة في عدد مراكز الفكر، حيث تمتلك 509 مراكز، بينما حلت الصين في الترتيب الثاني داخل القارة، ويبلغ عدد مراكز البحوث بها 507 مراكز، لتسجل انخفاضا عن عام 2017 حيث كانت تمتلك حينها وفقا لتصنيف بنسلفانيا 512 مركزا، وجاءت اليابان ثالثة بـ128 مركزا لها دور فاعل وقوي ومؤثر في صناعة القرار الياباني، ويتصدر معهد التنمية الكوري الترتيب الإقليمي لقارة آسيا للعام 2019، وعلى النقيض كانت أقل دول القارة في عدد مراكز الفكر هي سامو وفانواتو وتيمور الشرقية برصيد مركز واحد لكل منها، ومن بين 37 دولة داخل القارة كانت الدولتان الوحديتان التي شهدتا نقصا في عدد المراكز في عام 2018 عن العام السابق له هي الصين وبنغلاديش.
جدول رقم (3): مقارنة بين عدد مراكز الفكر في قارة آسيا في الفترة 2017 – 2019 )[9](
تتصدر دولة الأرجنتين المشهد في منطقة أميركا الجنوبية والوسطى بعدد مراكز يصل إلى 227 مركزا، ويتصدر مركز فونديساو فارجاس البرازيلي الترتيب الإقليمي لأميركا الجنوبية والوسطى، هذا وقد شهدت بلدان أميركا اللاتينية والوسطى زيادة في عدد المراكز باستثناء دولة بورتريكو التي تناقص العدد فيها بمعدل مركز واحد عن تصنيف 2017، وكان للمكسيك والبرازيل والأرجنتين صدارة الدول التي تزايد فيها عدد المراكز بمعدل 12 مركزا للمكسيك و10 مراكز للبرازيل ومركزين للأرجنتين.
جدول رقم (4): مقارنة بين عدد مراكز الفكر في أميركا الجنوبية والوسطى في الفترة 2017 – 2019)[10](
لم تشهد إفريقيا جنوب الصحراء أي زيادة في أعداد المراكز بل شهدت تناقصا ملحوظا في بلدان الساحل والصحراء، مثل: تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو، موريتانيا، حيث تناقصت مراكز الفكر فيها بشكل حاد، ففي النيجر على سبيل المثال التي كانت تمتلك 19 مركزا في تصنيف 2017 أصبحت 4 مراكز فقط في عامي 2018و2019، كذلك مالي كانت تمتلك 14 مركزا ثم أصبحت 11، وبوركينا فاسو تناقصت من 21 إلى 15، مع ثبات العدد في تشاد وموريتانيا، ما ترتب عليه تزايد التمدد الجغرافي للتنظيمات الإرهابية خاصة مع حالة الضعف التي تعانيها تلك الدول عسكريا باستثناء الجيش التشادي الذي يعد أكثرها جاهزية وقوة، ومن الجدول رقم (5) نجد أنه لم تشهد أي دولة في المنطقة أي زيادة تذكر في عدد مراكز الفكر في آخر 3 سنوات بل على العكس انخفض عدد المراكز في 14 دولة إفريقية من أصل 44 دولة مدرجة ضمن التصنيف، وثبت عدد المراكز في الأعوام الثلاثة في 30 دولة داخل المنطقة.
جدول رقم (5): مقارنة عدد مراكز الفكر في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في الفترة 2017 – 2019 )[11](
تزايد عدد مراكز الفكر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل ملحوظ في عامي 2018و2019 مقارنة بتصنيف عام 2017، ولعل أهمها كان في الأردن بـ 22 مركزا، ثم الإمارات بـ6 مراكز، ثم تركيا والاحتلال الإسرائيلي والعراق بزيادة مركزين، بخلاف دول أخرى بمركز واحد فقط، وغابت الدول العربية عن ترتيب أفضل 3 دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تصدر الاحتلال الإسرائيلي الترتيب الإقليمي لدول المنطقة بـ 69 مركزا، تلته إيران بـ 64 مركزا ثم تركيا بـ 48 مركزا، وجاءت جمهورية مصر العربية أولى الدول العربية في المركز الرابع بـ 39 مركزا، وجاءت دولتا عمان وليبيا في ذيل الترتيب بـ 3 مراكز لكل منها، وتصدر مركز الدراسات الاستراتيجية الأردني ترتيب المراكز الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
جدول رقم (6): مقارنة بين عدد مراكز الفكر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الفترة 2017 – 2019 )[12](
سنتناول في هذا المحور تقاطع توزيع مراكز الفكر وفقا للتخصصات وللقطاع الجغرافي فيما يكون مصفوفة التخصصات وفق النطاق الإقليمي، ثم مصفوفة التخصصات وفق النطاق القطري وتفسير تمركز التخصصات في كل إقليم وقطر كما سيظهر في الجزء اللاحق، ويمثل الشكل رقم (3) خريطة أفضل مراكز الفكر وفق التخصص، حيث تصدرت مراكز الولايات المتحدة صدارة الترتيب في 7 تخصصات، هي: سياسات الاقتصاد المحلي، الاقتصاد الدولي، العلوم الاجتماعية، سياسات الموارد والطاقة، الشؤون الدولية والسياسات الخارجية، العلوم والتكنولوجيا، الأمن القومي والدفاع، في حين تصدر مركز تابع للمملكة المتحدة تخصصين هما الشؤون الصحية المحلية والدولية، وتصدرت كل من السويد وألمانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية والصين في تخصص واحد فقط، وعلى الرغم من امتلاك الهند لعدد كبير جدا من المراكز قدر بنحو 509 مراكز جاءت بها في المركز الثاني في قائمة أكبر الدول امتلاكا لمراكز الفكر خلف الولايات المتحدة المتصدرة لقائمة الترتيب- إلا أن المراكز الهندية لم تظهر في صدارة ترتيب أي تخصص، وكذلك الحال للصين التي تمتلك 507 مراكز حلت بها في المركز الثالث للترتيب العام إلا أنها لم تتصدر سوى تخصص وحيد وهو الأمن المائي.
شكل رقم (3): خريطة أفضل مراكز الفكر وفق التخصص
سنتناول في الجزء التالي من الدراسة عرضا وتحليلا لمصفوفة التخصصات ودلالاتها وفق نطاقين، أولهما النطاق الإقليمي ثم وفق النطاق القطري، وذلك على النحو التالي:
جدول رقم (7) مصفوفة التخصصات الإقليمية (مطابقة أفضل التخصصات مع الأقاليم الجغرافية))[13](
شكل رقم (4): مصفوفة التخصصات في قارة أوروبا
يبرز تخصص السياسة الدولية والشؤون الخارجية كأهم تخصص في قارة أوروبا أكثر من المجالات الأخرى، وهو ما جعلها تتبوأ مراكز متقدمة في تخصصات السياسة الخارجية، وتستعين الدول الأوروبية بهذه المراكز في عدد من الملفات، مثل أزمة اللاجئين التي تستغلها تركيا لابتزاز أوروبا، وهو ما دفع دولة مثل ألمانيا للاستفادة من الموارد البشرية السورية الهائلة التي استضافتها بالتوازي مع ضرورة تفعيل الإجراءات الأمنية الاحترازية خشية تسلل عناصر متطرفة مع الأعداد المهولة من اللاجئين، وبالنظر إلى دور المملكة المتحدة نجد أن دور مراكز الفكر أسهم بشكل كبير في حسم الجدل في أزمة “بريكست”، كذلك في محاولة إعادة تنمية العلاقات مع أميركا والتنسيق الأمني المتزايد بشأن أزمات المنطقة الملتهبة دائما الشرق الأوسط.
وتصدرت أوروبا الترتيب العام في 5 تخصصات، هي: الحوكمة والشفافية وتصدره مركز ألماني، الأمن الغذائي وتصدره مركز فرنسي، البيئة وتصدره مركز سويدي، الصحة المحلية والصحة العالمية وتصدرهما مركز بريطاني.
كذلك تبرز قارة أوروبا في عقد المؤتمرات المتعلقة بالأمن والدفاع في خطوة تسعى من خلالها القارة العجوز إلى اقتناص الفرصة لإعادة القيادة العالمية دون صدام مع أميركا بترك الساحة للاندفاع الآسيوي نحو القيادة، ومن ثمَّ الشروع في ترسيخ السيطرة الأوروبية المستندة على أخطر وأهم ما يهدد الأمن والاستقرار العالمي.
وجاء تخصص الصحة العالمية كأقل تخصص ضمن اهتمامات القارة العجوز، وتلاه تخصص الصحة المحلية، وهو راجع في الأساس لارتفاع الخدمات الصحية بالقارة، وارتفاع معدلات الأعمار بها وخلوها من الأوبئة بشكل كبير، حتى أصبح الأمر لا يشكل أزمة كبيرة بالنسبة للمنطقة.
شكل رقم (5): مصفوفة التخصصات في قارة أميركا الشمالية
تهتم قارة أميركا الشمالية بصفة عامة بمجال الأمن الغذائي الذي جاء بأكبر عدد من المراكز بإجمالي 35، حيث يتوافق ذلك مع توجه القارة خاصة الولايات المتحدة التي زاد حجم بيع المحاصيل العالية الجودة التي يبيعها المزارعون الأميركيون إلى بقية بلدان العالم بكميات أكبر من أي وقت مضى في تاريخ الزراعة الأميركية، وأصبح المزارعون الأميركيون ينتجون المحاصيل على مستويات كان من الممكن أن يندهش منها العالم قبل بضع سنوات، ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة التي تعد أكبر مصدّر للمواد الغذائية والزراعية في العالم صدرت إلى الخارج منتجات زراعية تقدر قيمتها بأكثر من 139.5 مليار دولار في العام 2018، بزيادة قدرها 1.5 مليار دولار عن العام 2017.([14]) وتدعم الصادرات الزراعية أكثر من مليون وظيفة أميركية في الزراعة وتربية الماشية، فضلا عن الوظائف وفرص العمل في تجهيز وتعبئة ونقل المحاصيل، وتشير التقارير إلى أنه بحلول العام 2050 من المتوقع أن يزداد الطلب العالمي على الغذاء بنسبة 60%، ولمواجهة هذا التحدي تعمل الولايات المتحدة على ابتكار ممارسات زراعية جديدة وبناء أسواق جديدة وإزالة الحواجز التجارية غير المنصفة، وهو ما انعكس على أعداد المراكز التي تُعنى بتخصص الأمن الغذائي.
ومن أهم التخصصات في المنطقة أيضا تخصص السياسة الدولية والشؤون الخارجية، بالإضافة إلى تخصص الدفاع والأمن القومي، وهذا ما يؤكده عدد المراكز التي نالت مراكز متقدمة سواء في التصنيف العام أو حتى في التصنيف حسب التخصص، وهذا يعني أن مراكز الفكر تخدم التوجه الاستراتيجي لأميركا بما يخدم ترسيخ مصالحها حول العالم، كذلك الاهتمام بالمجال الأمني لمجاراة المنافسين الاستراتيجيين الأبرز (روسيا والصين) وضمان التفوق عليهما، كما يعكس اهتمام أميركا بهذه التخصصات توجه الدولة نحو التوسع في إنتاج الأسلحة والصناعات الدفاعية والانتشار دوليا وتبني سياسة مختلفة مع الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض.
وتصدرت المراكز الأميركية 7 تخصصات من إجمالي 15 تخصصا، أي أن المراكز الأميركية تصدرت ما يقرب من نصف التخصصات، وجاءت التخصصات التي تصدرتها مراكز أميركية في: الأمن القومي والدفاع، الشؤون الدولية والسياسة الخارجية، الاقتصاد المحلي، الاقتصاد العالمي، العلوم والتكنولوجيا، العلوم الاجتماعية، الموارد والطاقة.
شكل رقم (6): مصفوفة التخصصات في قارة آسيا
اقتنص تخصص السياسة الدولية والشؤون الخارجية أعلى الترتيب في قارة آسيا، وهو ما يعكس بشكل واضح مزاحمة الأقطاب الآسيوية نحو الريادة العالمية في الآونة الأخيرة لأميركا وأوروبا، وبروز أكثر من قطب آسيوي مع توقع بأن تتغير خريطة القوى العظمى العالمية في القريب العاجل في ظل تنامي دور الصين والهند ومن خلفهما اليابان وكوريا الجنوبية ليعاد تشكيل خريطة مراكز القوى العالمية، وإذا ما تفحصنا الجدول رقم (7) سنجد أن التخصصات التي تهتم بها المنطقة بشكل كبير بعد السياسة الدولية تركزت في التنمية الدولية بـ 34 مركزا ، ثم الاقتصاد المحلي بـ33 مركزا ، وهو ما يوضح مدى اهتمام أغلب دول المنطقة بمجالات التنمية الاقتصادية؛ وذلك نظرا لوجود الصين واليابان القوتين التجاريتين الأبرز، وهذا ما يفسر السباق المحموم والتنافس الاستراتيجي بينهما لضمان أكبر سيطرة ممكنة سواء على دول مجموعة آسيان أو حتى باقي دول القارة والعالم.
وحصلت المراكز الآسيوية على صدارة ترتيب 3 تخصصات، الأول كان الأمن المائي وتصدره مركز صيني، واالثاني كان التعليم وتصدره مركز ياباني، والثالث كان التنمية الدولية وتصدره مركز كوري جنوبي.
وتشكل الهند إحدى القوى الصاعدة بقوة في آسيا والعضو الفاعل والمؤثر في “البريكس” أكبر دول القارة في عدد مراكز الفكر، حيث تمتلك 509 مراكز استطاعت من خلالها استخدام الدبلوماسية الثقافية في الانتشار حول العالم عبر سلسلة من الإجراءات التي أوصت بها مراكز الأبحاث، كذلك تهدئتها للصراع على التبت مع الجارة العظمى الصين التي حلت ثانية بـ507 مراكز، لتسجل بكين انخفاضا عن عام 2017، حيث كانت تمتلك حينها وفقا لتصنيف بنسلفانيا 512 مركزا، وهذا لا يعني قصورا في القطاع البحثي الصيني بقدر سعي الصين إلى تجويده من خلال الاعتماد على عدد كبير من الكوادر البشرية، وهذا تثبته التحركات الصينية على الأرض خاصة بعد نجاح استراتيجية التوغل الاقتصادي والتحكم في مفاصل حيوية من الاقتصاد العالمي كذلك مبادرة طريق الحرير، فضلا عن بدء الانتشار العسكري الصيني خارج الأراضي الصينية للمرة الأولى متجسدا في قواعد عسكرية بإفريقيا والمشاركة في مناورات بحرية في منطقة الخليج العربي، فضلا عن عقد الصين لمؤتمرات بحثية بصفة دورية كل عامين تستضيف خلالها العديد من مراكز الأبحاث من حول العالم لبحث سبل تنمية علاقاتها التجارية والاقتصادية مع مختلف التكتلات الجغرافية.
أما اليابان فجاءت ثالثة بـ 128 مركزا لها دور فاعل وقوي ومؤثر في صناعة القرار الياباني، ويتضج ذلك جليا في سلسلة الشراكات الاستراتيجية التي تبنتها الحكومات اليابانية المتعاقبة مع الهند وأستراليا، كذلك تعزيز العلاقات مع أميركا، فضلا عن بدء الانتشار بالدبلوماسية الثقافية لمنافسة كوريا والصين، وتسهم مراكز الفكر اليابانية أيضا في إمداد صانع القرار والرأي العام بما يفترض اتخاذه من إجراءات لمجابهة التفوق الصيني الكاسح، كذلك إدارة أزمة جزر كوريل مع روسيا؛ وهذا يعني أن مراكز الفكر في قارة آسيا تخدم التوجه الاستراتيجي للدول خاصة الصين والهند واليابان، ما يسهم في تعزيز وتدعيم صنع القرار فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية لتلك الدول، وبما يشكل حالة من الاستعداد لانتقال قيادة العالم من الغرب إلى الشرق “الصين”.
شكل رقم (7): مصفوفة التخصصات في قارة أميركا اللاتينية
تصدر تخصص العلوم الاجتماعية المشهد في أميركا اللاتينية بـ 16 مركزا، ومن المعروف أن العلوم الاجتماعية هي مجموعة العلوم التي تهتم بالجانب الاجتماعي للإنسان لدراسة المجتمعات البشرية، مهما اختلفت زوايا رؤيتها أو مناهجها في دراسة ذلك الإنسان وفي علاقته بالآخر أو جماعة أو دولة أو مؤسسة، وهي: علم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا واللغة والإدارة والقانون والجغرافيا وعلم النفس…إلخ، ويرجع اهتمام أميركا اللاتينية بالعلوم الاجتماعية أكثر من غيرها من التخصصات نتيجة لما تعج به المنطقة من متناقضات صارخة، فيتركز فيها نحو 5% من أغنى أغنياء العالم، وهي أيضا المنطقة التي يعيش فقراؤها في فقر مدقع، وذلك على الرغم من كون عدد كبير من النظم السياسية فيها ذات خلفية اشتراكية، وتتماثل بدرجة كبيرة معدلات وفيات الأطفال وسوء التغذية في المناطق الريفية والأحياء الشعبية الفقيرة مع معدلاتها في البلدان الأكثر فقرا بشكل ملحوظ، وهي المنطقة التي تبلغ فيها نسبة التفاوت في توزيع الدخل أعلى المستويات، وهو ما يعني أن الفقراء فيها يحصلون على نسبة أصغر من مجموع الدخل القومي مقارنة بفقراء المناطق الأخرى؛ ونتيجة لذلك تزيد معدلات الفقر في أميركا اللاتينية بصورة منتظمة على المعدلات التي يمكن توقعها مقارنة بالبلدان الأخرى ذات الدخول المتوسطة المماثلة([15]).
كما جاءت مراكز الفكر التي تعنى بالاقتصاد المحلي والتنمية الدولية في المركزين الثاني والثالث، وهو ما يوضح اهتمام دول المنطقة اللاتينية بمراكز الفكر ذات التخصص في التنمية الاقتصادية بما يفسر تطلعات دولة مثل البرازيل بعضويتها في مجموعة بريكس، كذلك محاولات الأرجنتين وتشيلي المستمرة لتلافي الكوارث الاقتصادية التي من الممكن أن تعصف بالبلاد وتدفعها نحو موجة اضطرابات.
كما تؤدي مراكز الفكر والرأي في أميركا اللاتينية عددا من الوظائف، مثل تقديم الدعم السياسي للأنظمة السياسية، وإعداد كوادر الخبراء من واضعي السياسات والسياسيين والاستعانة بفرق من الخبراء لتشكيل جزء من الحكومات الجديدة، وقد أدى هذا إلى استمرار تعزيز العلاقة الوثيقة بين كلتا المجموعتين؛ ونتيجة لذلك في أميركا اللاتينية من الممكن الربط بين وجود علاقة قوية بين القوة السياسية للنظام ووجود مؤسسات فكرية حديثة وفعالة، ففي الإكوادور وبوليفيا حيث الأنظمة السياسية ضعيفة تعاني مؤسسات الفكر والرأي من قلة الموارد، أما في البرازيل والأرجنتين وتشيلي وكولومبيا مع أنظمة أكثر تطورا تُمول مراكز الفكر بشكل جيد ومنظم بشكل فعال لمعالجة سياقها وتعزيز العلاقة بين المعرفة والسياسة.
شكل رقم (8): مصفوفة التخصصات في قارة إفريقيا جنوب الصحراء
تصدر تخصص الأمن الغذائي المشهد في إفريقيا جنوب الصحراء بـ 31 مركزا، وتلاه تخصص الأمن المائي بـ 15 مركزا، وتعكس تلك الأرقام السيطرة الكبيرة لتخصصي الأمن المائي والغذائي على خريطة الفكر الإفريقية، وذلك لكثرة التحديات التي تواجهها القارة بشأنهما، حيث تمتلك إفريقيا السمراء الكثير من المفارقات والتناقضات، فهي الأغنى من حيث الموارد لكن السواد الأعظم من شعوبها من الفقراء والجوعى، وتزخر بكل أنواع الموارد الطبيعية التي جعلت العالم كله يتصارع عليها، لكنها فقيرة جدا بالموارد المائية التي هي أهم احتياجات الإنسان.
كما يزيد تغير المناخ وزيادة مساحات التصحر في القارة من الحاجة إلى تكثيف الجهود للبحث في مجال الأمن المائي والغذائي والزراعة في إفريقيا بغية زيادة القدرة على التكيف مع تغير المناخ، ولعل النموذج الأبرز الذي يشار إليه في هذا المقام هو بحيرة تشاد التي تعد واحدة من كبرى بحيرات إفريقيا وسادس أكبر بحيرة في العالم، والتي تقلصت في السنوات الماضية بسبب سوء الممارسات الزراعية والرعوية، حيث كانت مساحتها في الستينيات 25 ألف كيلومترا مربعا من المياه، لتفقد اليوم 90% من مياهها بسبب الجفاف والتصحر وغياب الإدارة الحكوميَّة للمياه، وخسرت كينيا ما يزيد على 3 مليارات دولار في العقد الأول من القرن الـ21 بسبب الجفاف، وتفرض دولة جنوب إفريقيا على مواطنيها عدم تجاوز الـ20 لترا استعمالا للماء يوميا، كما أن نحو 40% من سكان إفريقيا جنوب الصحراء لا يحصلون على إمدادات المياه الآمنة، ويعيش المواطنون في 13 دولة 9 منها في إفريقيا على متوسط أقل من 10 لترات للفرد يوميا([16]).
ويؤثر نقص المياه في إفريقيا على أهم الأنشطة الإنتاجية فيها، ألا وهي الزراعة التي تكتسب أهمية كبيرة بالقارة؛ لأنها تمثل نحو 35% من الناتج الإجمالي، وتشكل 40 من صادراتها، كما تستوعب 70% من فرص التوظيف، وبحسب تقارير للأمم المتحدة فإنه من المتوقع أن تفقد إفريقيا ثلثي أرضها الصالحة للزراعة بحلول عام 2025، حيث يؤدي جفاف الأرض حاليا إلى خسارة أكثر من 3% سنويا من إجمالي الدخل القومي من الزراعة في دول جنوب الصحراء الإفريقية([17]).
وكل هذه التحديات سالفة الذكر تفرض الحاجة إلى البحث والابتكار في مجالي الأمن المائي والغذائي، ولعل ذلك هو ما دفع العديد من مراكز الفكر في القارة إلى تكثيف جهودها في هذا المجال.
وجاء أقل التخصصات في المنطقة تخصص الدفاع والأمن القومي بمركز واحد فقط، وهذا يدلل على غياب مفاهيم الدفاع والأمن القومي عن العقل الاستراتيجي الإفريقي بشكل كبير، وهو ما جعلها فريسة للإرهاب وضحية لنهب الثروات، حيث باتت القارة السمراء ساحة للتنافس الاستراتيجي لضمان السيطرة والنفوذ باستخدام الوسائل المختلفة.
وشهدت منطقة الساحل والصحراء الإفريقية التي تشمل بلدان، مثل: تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو موريتانيا، تناقصا ملحوظا في عدد المراكز إجمالا بين تصنيفي 2017 و2019، فدولة مثل النيجر كانت تمتلك 19 مركزا في تصنيف 2017 أصبحت 4 مراكز فقط في 2019، كذلك دولة مالي كانت تمتلك 14 مركزا أصبحت 11، وبوركينا فاسو تناقصت من 21 إلى 15، وازداد التمدد الجغرافي للتنظيمات الإرهابية خاصة مع حالة الضعف التي تعانيها تلك الدول عسكريا باستثناء الجيش التشادي الذي يعد أكثرها جاهزية وقوة، وهو ما جعلها تشكل بؤرة خطرة قد تحول القارة بأكملها إلى جحيم إذا لم يتم مكافحة الإرهاب فيها، كذلك كون تلك المنطقة تشكل حزاما يطوق البلدان العربية المتواجدة في شمال إفريقيا.
ولم يكن الوضع أفضل حالا في منطقة القرن الإفريقي التي لم تستقر فيها الأوضاع منذ عملية الصقر الأسود الأميركية في العام 1994 في الصومال، وتداعياتها على البلدان المجاروة بعد بروز حركات مناهضة للتدخل الأميركي، وتواكب ذلك مع بروز ظاهرة التطرف داخل القارة ما أصبح يشكل تهديدا حقيقا للمدخل الجنوبي للبحر الأحمر ولكينيا المركز الاقتصادي الهام في إفريقيا، حيث تنشط حركة الشباب الإرهابية في الصومال بهجمات مباغتة من وقت لآخر على مدنيين وعسكريين داخل الصومال وخارجها في إطار سعيها لإرهاق التواجد الإثيوبي والكيني العسكري، كذلك تنفذ الحركة أجندة تستهدف تفتيت الصومال كدولة مركزية إلى كانتونات فيدرالية مستقلة بدعم من قوى إقليمية ودولية.
شكل رقم (9): مصفوفة التخصصات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تهتم مراكز الدراسات في منطقة الشرق الأوسط بمجالات السياسة الخارجية والشؤون الدولية (13 مركزا)، والأمن الغذائي (11 مركزا)، والدفاع والأمن القومي (10 مراكز)، وهذا يدل بوضوح على اهتمام العقل الاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط بالنواحي السياسية والأمنية؛ وذلك لأنها تمثل مركز العالم وتحظى باهتمام دولي كبير ومنافسة إقليمية شرسة، فعلى صعيد تخصص السياسة الخارجية والشؤون الدولية تصدر المعهد الدولي للدراسات الإيرانية ورصانة (السعودية) ترتيب مراكز الإقليم في هذا التخصص، وجاء في المركز 31 عالميا، وجاءت تركيا كأكبر دول الإقليم امتلاكا لمراكز الفكر المعنية بهذا التخصص بـ 5 مراكز ، ثم الاحتلال الإسرائيلي بـ 3 مراكز، ثم الأردن والسعودية بمركزين لكل منها، ثم مصر بمركز واحد.
وفيما يتعلق بتخصص الدفاع والأمن القومي جاء معهد دراسات الأمن القومي التابع للكيان الصهيوني على رأس المراكز الإقليمية في التخصص، وجاء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية على رأس المراكز العربية في التخصص في الترتيب الـ 32، وجاءت تركيا كأكبر دول الإقليم امتلاكا لمراكز الفكر المعنية بهذا التخصص بـ 4 مراكز، ومن بعدها الأردن والكيان الصهيوني بمركزين لكل منها، ثم مصر ولبنان بمركز واحد لكل منها.
ويوضح العرض السابق أن المركز المتخصصة في السياسة الخارجية والشؤون الدولية والدفاع والأمن القومي قد توزعت بين القوى الأساسية في الإقليم، ولكن غابت المراكز الإيرانية عن المشهد تماما على الرغم من اهتمام النظام الإيراني بتلك المجالات، وهو الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى طبيعة المراكز الإيرانية التي تكون في الغالب مقربة بدرجة كبيرة من السلطة الحاكمة أو منخرطة فيها، أو من خلال إنشاء مراكز في دول عربية تخدم توجه وأهداف المراكز العاملة في إيران، وهو ما يجعل أعمالها تخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة ولا تكون معلنة، فيصعب تصنيفها بشكل جيد.
تعد منطقة الشرق الأوسط مركز العالم، حيث شهدت قيادة العالم عبر التاريخ باستثناء القرن الأخير الذي قادت فيه العالم قوى من المنطقة، لذلك فإن انتشار مراكز البحوث فيها له دلالات عدة من أهمها سعي القوى الإقليمية لدراسة المنافسين وكيفية التمدد وبسط النفوذ وبحث آليات التوغل، وبالنظر إلى المنطقة نجد أن مصر وإيران وتركيا كانت القوى الثلاث التي تناوبت على القيادة إلى أن ظهر “الاحتلال الصهيوني” وكرس جهود البحث العلمي فيه لدراسة نقاط الضعف ومكامن الخلل عند القوة الأهم، وهي مصر.
وجاء تخصصا الشفافية والحكم الرشد والأمن المائي في ذيل الترتيب بالنسبة لإقليم الشرق الأوسط، حيث لا تمتلك المنطقة أي مركز متخصص في هذين التخصصين، وهو ما يدلل بشكل واضح على تذبذب وتراجع دول المنطقة في المؤشرات الدولية للشفافية والنزاهة، وعلى الرغم من حاجة دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الشديدة لتوفير مصادر مياه مستدامة لها وافتقارها الشديد للمياه، كما لم تظهر مراكز الأبحاث في المنطقة في قائمة الأفضل في التخصص، وهو ما يدل على مدى القصور الكبير في الاهتمامات والتوجهات البحثية في منطقة الشرق الأوسط.
وبرز لأول مرة الحضور العربي في التصنيف في مركز متقدم ضمن هذه القائمة متجسدا في مركز الإمارات للسياسات الاسترايجية الذي يعقد بصفة دورية “ملتقى أبوظبي الاستراتيجي”، كذلك حلقات نقاش وندوات حول القضايا الإقليمية والدولية، خاصة في ظل تنامي التهديدات الإيرانية والتركية للعالم العربي، ومخاطر التوسعات التي تقوم بها تركيا وإيران إقليميا في البلدان العربية وقاريا في عدد من المناطق لخلق ساحات نفوذ جديدة.
في هذا الجزء سوف نتناول مصفوفة التخصص القطرية، وذلك من خلال مطابقة أفضل التخصصات مع أعلى الدول امتلاكا لمراكز الفكر، وأضِيفت 4 دول من خارج العشرين الأوائل على مستوى العالم، هي مصر والاحتلال الإسرائيلي وتركيا وإيران؛ باعتبارها أكثر الدول امتلاكا لمراكز الفكر في إقليم الشرق الأوسط.
جدول رقم (8): مصفوفة التخصصات القطرية (مطابقة أفضل التخصصات مع أعلى الدول امتلاكا لمراكز الفكر))[18](
ومن الجدول رقم (8) يتضح لنا بكل وضوح مدى ضخامة الأرقام في الصف الأول من الجدول الخاص بالولايات المتحدة الأميركية مقارنة بباقي الأرقام بالجدول، وهذا الأمر يعكس بما لا يدع مجالا للشك مدى الاهتمام الأميركي بمراكز الفكر على جميع الأصعدة وكافة التخصصات، وتحظى دراسات مؤسسات الفكر والرأي في الولايات المتحدة الأميركية باهتمام خاص؛ لأن فيها منبعا لمختلف الافكار والنظريات التي تؤثر بشكل أو بآخر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وقد أكدت أحداث سبتمبر عام 2001 تزايد أهمية الدور الذي تقوم به المؤسسات الأكاديمية في هذا المجال، ولقد ظهرت هذه المؤسسات نتيجة دعوات لجعل عمل الحكومة الأميركية عملا مؤسساتيا قائما على الحرفية ومتوائما مع أحداث النظريات السياسية والاقتصادية، وهذه المؤسسات تولد لدى صانعي القرار الأميركي عددا من الفوائد، أهمها أنها تضيف تفكيرا جديدا لصانعي السياسة الأميركية وتوفر خبراء العمل في الحكومة والكونغرس، وتؤمن لصانع السياسة خبراء لإيجاد تفاهم مشترك على الخيارات السياسية المختلفة وتثقف المواطن الأميركي عن العالم وتوفر إمكانية قيام فريق ثالث بالوساطة بين طرفين متنازعين.
كما كان لمراكز الفكر دورا هاما في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في إدارته بعدد من الشخصيات، من بينها نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية كوندليزا رايس من مراكز أبحاث واشنطن للدراسات، وغيرهم كثير من إدارة الرئيس بوش كانوا يعملون في مراكز الدراسات والفكر الأميركية، كما استعان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأحد مراكز الفكر الأميركية في إحدى القضايا الهامة على صعيد العلاقات الدولية وهي الملف الإيراني وآليات وشروط التفاوض مع إيران، ليضع حلا لمشكلة ظلت مثارة لسنوات طويلة، كما عيّن الأميركية ذات الأصول المصرية داليا مجاهد مديرة مركز گالوپ للدراسات الإسلامية مستشارة له لشؤون الأديان، ويمكن القول بأن المراكز البحثية في الولايات المتحدة الأميركية تعد بابا خلفيا لصناعة القرار السياسي هناك، فضلا عن إدارتها للحملات الانتخابية للمرشحين على منصب الرئيس الأميركي ما ينبئ بقرب وجود مراكز فكر خاصة لإدارة الحملات الانتخابية مستقبلا.
وفي الجزء التالي سنتعرض التخصصات البالغ عددها 15 تخصصا وفقا للمصفوفة الموضحة بالجدول رقم (8)، وذلك على النحو التالي:
تعنى مراكز الفكر بالدرجة الأولى بالمستقبل وما يحمله من تغيرات وتطورات من خلال صياغة رؤية افتراضية غير متوقع حدوثها، ورسم سيناريوهات قد يراها البعض مستبعدة في الوقت الراهن، وذلك في ضوء ما يمر به النظام الدولي على كافة الأصعدة، وفي المستقبل القريب سيصبح لمراكز الفكر الكلمة العليا في كل الأمور الحياتية من خلال انتهاج آليات التفكير المستقبلي وتحدي المعتقدات القديمة، وإعادة تشكيل إدراك صانع القرار للتهديدات والتحديات القادمة التي يفترض أن يكون مستعدا لها بالبدائل والخيارات للتقليل من آثارها السلبية، وفي هذا المحور سنناقش نطاق اهتمام مراكز الفكر في المستقبل والتعرف على الأدوار الجديدة التي قد تؤديها.
تركز مراكز الفكر في الدول الغربية على التخصص والقدرات الفردية والهياكل المؤسسية ولا مركزية ودعم العمل الحر، ومن خلال استعراضنا السابق لخريطة انتشار المراكز ومصفوفة التخصصات في المحورين السابقين تبين لنا أن المراكز الأميركية والبريطانية (باعتبارهما الدولتين الأكثر امتلاكا لمراكز الفكر في الكتلة الغربية) بصفة عامة تتبع المنظور الشامل للمركز الذي يعمل في مختلف التخصصات، وهو ما أتاح فرصة كبيرة للمراكز الأميركية في الظهور ضمن الأفضل في أغلب التخصصات، كما تبين أن تلك الكتلة الغربية اهتمت بالكم والكيف، فحصل عدد 305 مراكز أميركية على مراكز في قوائم المراكز الأفضل في مختلف التخصصات، علما بأن الولايات المتحدة تمتلك 1872 مركزا في مختلف التخصصات، أي أنه نسبة 16.29% من المراكز الأميركية أدرجت ضمن الأفضل على مستوى العالم في مختلف التخصصات، وتصدرت مراكزها قائمة الأفضل في 7 تخصصات.
وحازت بريطانيا على 88 مركزا ضمن قوائم المراكز الأفضل في مختلف التخصصات، علما بأن بريطانيا تمتلك 321 مركزا في مختلف التخصصات، أي أن نسبة 27.4% من المراكز البريطانية أدرجت ضمن الأفضل على مستوى العالم في مختلف التخصصات وهي نسبة عالية جدا، كما تصدرت مراكزها قائمة الأفضل في تخصصين، هما الصحة العالمية والصحة المحلية.
أما فيما يتعلق بالدول الشرقية فتركز مراكز الفكر فيها على تعدد المهام وعدم التخصص والجماعية والمركزية ودعم توجه الدولة، وتهتم الدول الشرقية بالكم على حساب الكيف، فبالنظر إلى الهند والصين باعتبارهما أكبر دولتين تمتلك مراكز فكر في المعسكر الشرقي نجد أن الهند على الرغم من امتلاكها 509 مراكز حلت بها ثانية على مستوى العالم خلف الولايات المتحدة، ولم يتواجد لها مراكز في قوائم الأفضل في التخصصات إلا 79 مركزا فقط أي بنسبة 15.5%، ولم تتصدر مراكزها أي ترتيب عام لأي تخصص، والصين التي تمتلك 507 مراكز لم يتواجد لها مراكز في قوائم الأفضل سوى 56 مركزا فقط أي بنسبة 11%، ولم تتصدر مراكزها سوى تخصص وحيد وهو الأمن المائي .
وعلى الرغم من التنافس الشديد بين الكتلتين الغربية والشرقية واختلاف المنهج والتوجه بينهما في الوقت الحالي إلا أن مراكز فكر المستقبل ستتحرك لتزيل تلك الحدود والفوارق وستتقارب الرؤى والتوجهات، خاصة مع انفتاح العالم بصورة أكبر وأشمل.
الميزة النسبية هي مصطلح اقتصادي يُنسب إلى عالم الاقتصاد السياسي الإنكليزي ديفيد ريكاردو، ويشير إلى قدرة الاقتصاد على إنتاج سلع وخدمات بفرص تكاليف أقل من تلك التي يمتلكها الشركاء التجاريون، أو قدرة دولة على إنتاج سلعة معينة بتكلفة أقل وجودة أعلى من أي دولة أخرى، مع ذلك قد يكون من المفيد أن تنتج مع الدولة الثانية إذا كان لديها تكلفة الفرصة البديلة أقل، وترتبط فكرة الميزة النسبية بتكلفة الفرصة البديلة التي تمثل المنفعة المحتملة التي يمكن أن يخسرها أحدهم نتيجة انتقائه لخيار معين على حساب آخر.
ولعل ما يحدث في العالم بين الولايات المتحدة والصين، القوتين الاقتصاديتين الأكبر، مثال معاصر للميزة النسبية التي تتمثل للصين في تعاملها مع الولايات المتحدة في رخص اليد العاملة، حيث ينتج العمال الصينيون سلعا بتكلفة أدنى بكثير من نظرائهم في الولايات المتحدة، ولدى الولايات المتحدة ميزة نسبية في اليد العاملة المتخصصة التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة، ونتيجة للتعاون يمكن أن ينتج العمال الأميركيون سلعا أو يهيئون فرصا استثمارية محكمة بفرص تكاليف أقل، لذلك فإن تخصيص وتبادل هذه الخطوط الإنتاجية بين البلدين يصب في مصلحتهما.
وكذلك الحال بالنسبة لمراكز فكر المستقبل التي سوف تسعى للحصول على ميزة نسبية على المستوى القطري أو الإقليمي في تخصص معين أو نشاط معين، كأن تتسم مراكز الأبحاث الألمانية، على سبيل المثال، بأنها الأفضل في تنظيم المؤتمرات، وتتسم مراكز الفكر الأميركية بأنها الأفضل استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي، وأخرى الأفضل في التعامل الإعلامي، وأخرى الأفضل في النشر والمطبوعات… وهكذا.
الاندماج هو اتحاد للمصالح بين مؤسستين أو أكثر ينتج عنه ظهور كيان جديد، بما يعني دخول كلي لكيان المؤسسة في مؤسسة أخرى وبالتالي يزول كيانها القانوني، وستتسع هذه الاستراتيجية لدى مراكز فكر المستقبل نتيجة للتغييرات السريعة في النظام العالمي المتمثلة في العولمة والحرية الاقتصادية وإقامة التكتلات وزيادة حدة المنافسة بين الدول وزيادة التحديات التي تواجه العالم مع زيادة اهتمام متخذ القرار بمراكز الفكر، وليس بالضرورة أن يكون الاندماج بين المراكز من ذات التخصص، فيجوز أن يندمج مركز مع آخر من نوع آخر، سواء كان الاختلاف من حيث الأغراض أو من حيث الكيان القانوني.
وسيكون الاندماج في الغالب بين مراكز الفكر الصغيرة والمتوسطة، حيث يمثل خيارا استراتيجيا لهذه المراكز نحو التكتل والتحالف لخلق كيان جديد عملاق يمكنه استغلال حدة المنافسة العالمية لصالحه، ويكون له القدرة على تحقيق الأهداف التي لا تستطيع أن يحققها كل مركز بمفرده، أو للتغلب على مشاكل قائمة أو متوقعة في المستقبل لهذه المراكز، ومن المفترض أن يكون اندماج المراكز معا في كيان أكبر هو الطريق الأمثل لتحقيق العديد من الإيجابيات، أما الاستحواذ فغالبا ما ستقوم به المراكز العملاقة ذات رؤوس الأموال الضخمة التي تكون ليست بحاجة إلى الاندماج لأن مراكزها المالية قوية.
فمن المتوقع أن نرى في المستقبل مركز بروكنغز الأميركي يندمج مع مركز راند لتكوين شراكة استراتيجية في كيان جديد عملاق، أو أن يستحوذ مركز تشاثام هاوس البريطاني على مركز الأزمات الدولية البلجيكي… وهكذا.
أدت الثورة الصناعية الرابعة إلى تطور وسائل معالجة المعلومات آليا وتطور تقنيات الاتصالات والإنترنت حتى أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاء من البشر، وهو ما يتنبأ باتجاهات تغير مستقبل العالم وإعادة تشكيل مقدرات القوى، بل والنظام العالمي برمته وما يترتب عليه من خلق بدائل مستقبلية جديدة أمام صناع القرار، وسوف ترتبط مراكز الفكر مستقبلا بتقنيات الذكاء الاصطناعي بدرجة أكبر، مما يعني توسعا أكبر في عمليات إنتاج وبناء وتركيب هذه التقنيات خاصة في الدول الصناعية، وتحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي بما تتضمنه من تقنيات متطورة إلى استثمارات ضخمة لتوظيفها في هذا المجال الواعد، لذا فإنه في المستقبل القريب ستتبنى مراكز الفكر الذكاء الاصطناعي في تحليل الأحداث والتنبؤ بالمتغيرات واستشراف المستقبل، وسيشهد العقدان القادمان فترة تصاعد عمليات الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وسيأتي يوم نجد أن برمجيات الذكاء الاصطناعي هي التي تخطط للدول، وهي متخذ القرار الفعلي في أوقات السلم والحرب.
ولكن يمكن أن يخلق الاعتماد الكبير على الذكاء الاصطناعي أيضا اضطرابات كبيرة في هذا الشأن، وتنعكس تأثيراته على الاقتصاد والمجتمع والحوكمة؛ ولذا لا يجب التسليم المطلق للذكاء الاصطناعي لأن الاعتماد عليه بشكل مطلق سوف يخلق اضطرابات هائلة قد تكون مدمرة، هذا وقد تم إدراج تخصص الذكاء الاصطناعي لأول مرة ضمن تخصصات مراكز الفكر وفقا لتقرير تصنيف مراكز الفكر لجامعة بنسلفانيا 2019.
ستبدأ مراكز الفكر في جميع أنحاء العالم في الاعتماد بشكل أكبر من أي وقت مضى على الاستعانة بمصادر خارجية، وتعيين الباحثين المؤقتين عبر المنصات الرقمية، وهو ما سيطرح العديد من الأمور التي قد تسبب بعض الإشكاليات، مثل: إشكالية تمويل مراكز الفكر الافتراضية والشكل القانوني لها، ومثل تلك الأمور ستتطلب المعالجة والدراسة بشكل مستفيض، وأخذها بعين الاعتبار عند وضع مؤشر تصنيف مراكز الفكر نظرا لصعوبة تصنيفها.
تسعى مراكز الفكر إلى التركيز على تحسين وظائف الجماعات العرقية والعنصرية، والتركيز على التحولات التكتونية الوطنية والإقليمية في السياسة المحلية والدولية، كذلك سيتم التركيز على تطويع الأديان لخدمة الأغراض السياسية التوسعية وتوظيفها في حل النزاعات الحادة أو توسيعها، وقد وظفت العديد الأقطاب الإقليمية في الشرق الأوسط مراكز الفكر لديها انطلاقا من أيدلوجيات دينية لخدمة أغراضها السياسية في ضوء مخططات مستقبلية تستغل فيها الأديان لإعادة ترسيم الحدود بحجة المشترك الديني والعقائد المتداخلة وطرق الحج المشتركة وما شابه ذلك، ولعل تركيا وإيران والاحتلال الإسرائيلي ثلاثة نماذج واضحة للتوظيف المذهبي في خدمة توجهات الدولة الخارجية، فالأولى تسعى من خلال مذهبها السني بأن تصدّر لدول المنطقة نموذج الخلافة العثمانية واسترجاع دور الريادة الإقليمية، والثانية من خلال المد الشيعي ومحاولة بسط ذراعيها ونفوذها على دول الجوار، والثالثة باعتبارها الوطن الأم لليهود بالعالم، ومع تغير المذاهب والمعتقدات لكن تظل الغاية ثابتة.
ومستقبلا ستؤدي مراكز الفكر دورا أكبر في هذا الإطار عن طريق تغيير علاقات القوى وخلق رأي عام عالمي أكثر تأثيرا يساهم في إعادة بناء التنظيم الدولي والمؤسسات العالمية الجديدة وتحقيق السلام العالمي عبر بناء إطار جامع لمختلف الأديان، وتخلق دوافع ومحركات مشتركة من خلال آليات جديدة نحو بناء ثقافة عالمية مشتركة، كما ستتجه مراكز الفكر بانتهاج طرق أكثر أصولية فكرية من أجل الانتشار والتأثير، ولن تجد أنه من المستغرب أن تجد أحد مراكز الفكر تنتج منتجات علمية بلغة شعبية عامية بسيطة من أجل تصدير نموذج القيادة الشعبية للعالم، ولعل نموذج الرئيس الأميركي ترامب أحد أبرز تلك الأيدولوجيات الشعبوية الحاكمة لأكبر دولة في العالم في الوقت الحالي، وهو ما ستتبعه العديد من المدارس الفكرية الغربية منها والشرقية لتبني هذا النموذج.
الواقع الجديد هو أن معظم الديمقراطيات الصناعية المتقدمة يقف أمامها الاستقطاب السياسي وتفتيت الأحزاب السياسية حائلا دون الوصول إلى ما تصبو إليه، وتتمتع مراكز الفكر بوضع فريد للمساعدة في تقديم تحليلات ونصائح سليمة حول كيفية معالجة حالة الاستقطاب والصراعات السياسية بحيث تبنى على توجهات علمية، وهذه الأمور ستجعل من مراكز الفكر منصات سياسية توجه لحل المشكلات السياسية، بحيث يعد تطوير مراكز الفكر نواة لإنشاء منظمات سياسية جديدة قادرة على ملء وظائف شاغرة أخرى، والحاجة إلى تطور دورها إلى أحزاب سياسية قادرة على القيام بالعمل السياسي التنظيمي في محاولة لتحدي قيود وهياكل الأحزاب السياسية التقليدية الحالية.
ستخرج مراكز الفكر من عزلتها لتبدء البحث عن علاقات مع مراكز فكر في أجزاء أخرى من العالم بما يخدم سياسات دولها، وذلك نتيجة لزيادة إدراك الحاجة إلى تبادل المعلومات والمهارات الدولية إلى جانب تطوير علاقات قوية قادرة على التطبيق العملي على نطاق أبعد من المستوى المحلي، وستهتم مراكز الفكر بشكل خاص بتطوير العمل مع نظرائها من مراكز الفكر التي يكون لديها نشاط مشابه، لكن سيتم الحرص أيضا على وجود اتصالات مع مراكز الفكر التي تتشارك معها في قضايا مشتركة في أي مكان في العالم حتى وإن اختلفت عنها في الأنشطة والسياسات، كما ستنشأ في المستقبل روابط قوية بين مراكز الفكر عبر شبكات تكامل وروابط إضافية بسبب المناصب القيادية المشتركة، واشتراك نخب الباحثين في مواقع متشابكة وعلى الأرجح أنها ستكون عابرة للقوميات.
مستقبلا ستتجه الدول والنخب لمراكز الفكر بشكل أكبر في السنوات القادمة مما سيوفر لها المزيد من التمويل، وعلى الرغم من أهمية الموارد لكن الأهم من ذلك هو القدرة على تنظيم أعمال طويلة المدى ومحددة من قبل مجموعة متنوعة من الأشخاص المؤهلين الذين يعملون من أجل هدف مشترك واضح، وسيكون ضروريا لنجاح أي مساعي دائمة لتحقيق الريادة ، وقد يكون من الأفضل التفكير في مراكز الفكر كجزء من آلية ممارسة الوجه الثاني للسلطة، من خلال مشاركتها في وضع وصياغة القوانين بطريقة تجعل بعض الخيارات ببساطة خارج جدول أعمال متخذ القرار، كما ستصبح مراكز الفكر أداة لتعزيز الدبلوماسية الخارجية للدول، ولا يستبعد أن ترسم مراكز الفكر في دولة ما علاقاتها بالعالم الخارجي بناء على حسابات السياسة والدبلوماسية الخارجية المعقدة والمتشابكة.
وختاما سوف يشهد العالم وكلاء لرصد وتقييم أعمال مراكز الفكر عالميا، ويكون ذلك من خلال التعاون مع الجهات المتخصصة داخل كل دولة، سواء كانت هذه الجهات حكومية أو متخصصة، بهدف وضع تقييم داخلي لكل دولة لمراكز الفكر الموجودة بها، بأن يكون هناك شراكات مع الجامعات المحلية في كل إقليم، كما سيشهد المستقبل القريب إنشاء بوابة إلكترونية لكل منطقة أو قارة بهدف التواصل بين المراكز وبعضها البعض وأخرى تجمع كافة دول العالم؛ بهدف تبادل الخبرات بين المؤسسات وبعضها البعض والاطلاع بسهولة على المنتج البحثي لكل دولة، وسوف يعقد مؤتمر سنوي يكون بمثابة ملتقى للباحثين ومراكز الفكر يناقش فيها أهم القضايا محل الاهتمام مراكز الفكر في كل قطاع إقليمي.
تقرير مؤشر مراكز الفكر العالمية، جامعة بنسلفانيا، الرابط: https://bit.ly/32E3BrM.
أمريكا اللاتينية.. العودة إلى سابق عهدها، مجلة التمويل والتنمية، (صندوق النقد الدولي، العدد 52، 2015)، الرابط: https://bit.ly/3adafJR.
موقع المعهد الوطني للتقدم البحثي، الرابط: https://bit.ly/34lKXWJ.